موقع السلطة
الثلاثاء، 19 مارس 2024 04:07 صـ
موقع السلطة

رئيس التحرير محمد السعدني

  • اتحاد العالم الإسلامي
  • nbe
  • البنك الأهلي المصري
مقالات رأي

أوروبا.. معركة بين منطقين

عبد الإله بلقزيز- ارشيفية
عبد الإله بلقزيز- ارشيفية

ثار جدل واسع في بلدان أوروبا، منذ عام 2020، حول مدى شرعية الإجراءات الحكومية المطبقة في مضمار السياسات الصحية الاحترازية للحد من اتساع نطاق انتشار وباء كورونا، من قبيل منع التجمعات، وفرض إجراءات التباعد الاجتماعي، وإلزامية ارتداء الكمامات.

واستمر الجدل حتّى بعد أنِ انصرمت فترةُ الحجْر الصحّيّ، ورُفِع الإغلاقُ الشّامل، وفُتِحتِ الحدودُ أمام حركة السّفر والتّنقُّل، وعادت الحياة إلى طبيعتها خلال العام 2021.

ومَدارُ الجدل هذا، عند مَن أثاروه، على التّعارُض المفتَرَض بين إلزاميّة احترام الإجراءات تلك وحقوقِ المواطنين في حِفظ حرّياتهم من كلّ تقييد.

ثم ما لبث الجدل هذا أنِ احْتدم أكثر مع البدء في التّطعيم باللَّقاحات؛ وهو التّطعيم الذي طعنوا في مشروعيّة إلزاميّته، بل شكّكوا في جدواهُ وفي خلفيّاته "المشبوهة"، وشنّوا ضدّه أوسع الحمْلات التّشهيرية والتّحريضيّة في مواقع التّواصُل الاجتماعيّ، واتّهموا الحكومات الغربيّة بممالأة شركات تصنيع اللَّقاحات لأغراضٍ ربحيّة صرف، غير آبهة للعقابيل الصحّيّة التي ستتولّد منها على أبدان النّاس مستقبلاً.

والحقّ أنّ علينا الاعتراف بأنّ هذه الحمْلات المتعاقبة على الإجراءات الصحيّة الاحترازيّة وعلى التّلقيح - باسم احترام حقوق الإنسان - أحرزت نصيباً من النّجاح كبيراً في الفُشُوّ والتّأثير داخل قطاعات عريضة من الرّأي العامّ في المجتمعات الغربيّة.

وزادت آثارُها أكثر حين انتقلت ساحةُ التّعبير عنها من مواقع التّواصل الاجتماعيّ ومنصّاته إلى المدن والشّوارع التي باتت تتدفّق فيها حشود الرّافضين للتّلقيح وللالتزام بإجراءات الاحتراز الصحّيّ، متحدّيّةً الإجراءات الاستثنائيّة التي تحظر التّجمّعات، ومتحدّيةً الأجهزة الأمنيّة الموكول إليها تطبيق تلك الإجراءات.

ولقد ساعد على اندفاعة القوى الرافضة للتّلقيح أنّ الحكومات الغربيّة ظلت منقسمة على نفسها في شأن إلزاميّة التّلقيح، وأنّ أكثرها ظلّ متردّداً في تنفيذه مباشرةً مختاراً اللّجوء إلى إجراءات أخرى تُعادِل فرضَه في النّتائج (الإدلاء بشهادات التّطعيم)، من دون الاصطدام رأساً بحركات الاحتجاج.

والنّتيجة، في سياق اتّساع دائرة رفض تلقّي اللَّقاح، أنّ أعداد الإصابات بالفيروس زادت في أوروبا في نطاق موجتيْ الوباء السّابقتين؛ وهي تهدّد، اليوم، بالارتفاع أكثر مع سرعة انتشار المتحوّر الجديد أوميكرون.

وينبغي أن لا يستهين أحد بالإفادات العلميّة الصحّيّة التي تصدر من "المنظّمة العالميّة للصّحّة" ومن الوكالات والمؤسّسات الأمريكيّة والأوروبيّة الخاصّة بالأدوية والفيروسات، المشدّدة على أنّ الوسيلة الوحيدة لمغالبة الوباء والحدّ من فتكه هي التّطعيم بحقن اللَّقاحات المقرَّرة، وأنّ الإعراض عن ذلك سيعرّض القسم السّكّانيّ الرّافض للتّطعيم لأخطار الإصابة بالوباء.

والأنكى أنّ هؤلاء الرّافضة الذين يمكن أن يحملوا الفيروس يهدّدون محيطهم الاجتماعيّ بنشره فيه والتّأذّي منه، بمن فيهم من تلقّوا اللَّقاحات ولكنّهم مصابون بأمراضٍ مزمنة، ناهيك بكبار السّنّ.

ولعلّ هؤلاء الرّافضين لا ينتبهون إلى المغبّة التي سيقودُهم إليها رفضُهم؛ إذْ كلّما اتّسعت دائرة الامتناع عن تلقّي اللَّقاح، واتّسعت معها دائرة المصابين والقتْلى بالوباء، ستزيد وتيرةُ التّشدّد في فرض إجراءات الحماية، بل قد تعود بلدان أوروبا إلى الإغلاق وفرض الحَجْر الصّحيّ، وهكذا دواليك في تدافُعٍ دائرٍ بين إرادتين متنابذتين في حلقةٍ مفرغة!

من البيّن أنّ دعوى ردّ إجراءات الوقاية من أخطار الوباء باسم الحريّة وحقوق الإنسان (وهي دعوى تَلْقَى كبيرَ الصّدى في بلادنا العربيّة، وفي البيئات الشّبابيّة خاصّةً) دعوى باطلة من منظورٍ يُقيم علاقات الاجتماع السّياسيّ على مبدأ المصلحة العامّة؛ وهي القاعدة التي عليها مبْنى الدّولة والمجتمع الحديثين. إنّ الحريّة قيمةٌ عليا في أيّ مجتمعٍ حديث، ولا خلاف على أساسيّتها ولا على مركزيّتها؛ لأنّه بها، فقط، تكون المواطَنة كما أنّها هي المعيار الذي يُقاس به احترامُ حقوق الإنسان ومنظومة الحقوق المدنيّة والسّياسيّة للمواطنين في الدّولة الحديثة.

ولكنّ الحريّة ليست رخصةً مفتوحةً للفرد، بل هي مقيّدة بالقوانين؛ القوانين عينها التي تكفل الحريّات وتحميها. حين تستحيل الحريّة نقيضاً للقانون (الذي هو تجسيدٌ للإدارة العامّة)، تصبح تعبيراً عن أولويّة الفرد على المجتمع، الحريّة الفرديّة على المصلحة العامّة؛ وحينها ينتقض كلّ النّظام المدنيّ الحديث الذي مبْنَاهُ على حاكميّة القوانين والمصالح العامّة. فلا يعود بعدها من مسوّغٍ للحديث عن المواطِن والمواطَنة والدّولة في مجتمعٍ يُنْتَهك فيه القانون وتُداسُ فيه المصلحة العامّة!

ما يحصل في بلدان الغرب، اليوم، هو - بالذّات - هذا الصّدام بين الفرد والمجتمع (ومعه الدّولة).

وهو صدام بين منطقيْن نقيضين لا يَقْبَلان التّجاوُر: منطق الحريّة الفرديّة المنفلِتة من كلِّ عِقال، النّازعة إلى تحقيق نفسها من غير قيْدٍ من قانون، ومنطق المصلحة العامّة التي تقضي بتطبيق القانون على الجميع حمايةً للأمن الصّحيّ وللحقّ في الحياة: أقدس حقوق الإنسان جميعاً. بين الفوضى - باسم الحريّة- والنّظام، بين الإباحة والتّضييق الاضطراريّ (القانون)، ثمّ بين المصلحة الفرديّة والمصلحة العامّة. لا مجال للمقايضة. هذا منطق الدّولة.

بقلم / عبد الإله بلقزيز

نقلاً عن سكاي نيوز عربية

البنك الأهلي
عبد الإله بلقزيز منطقين روسيا أوكرانيا حرب روسيا حرب أوكرانيا معركة اوروبا حرب المصالح مصر اخبارمصر السلطة

آخر الأخبار

serdab serdab serdab serdab
CIB
CIB